البراءة
قالت السيدة عائشة: (فوالله ما بَرِحَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسُجِّي بثوبه، ووضِعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت كثيرا ولا باليت، قد عرفت أني بريئة، وإن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سُرّيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فَرَقاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس...
ثم سُرِّيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس وإنه ليتحدّر منه مثل الجُمان في يومٍ شاتٍ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: (أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتـك)... فقالت: (بحمـد الله وذمّكم)... ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل اللـه عز وجل من القرآن... سورة النور (11-19)... وبدايتها...
قال تعالى: {إنَّ الذين جَاؤُوا بالإفكِ عُصْبَةُ منكم، لا تحسبوه شراً لكم بلْ هو خيرُ لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسبَ من الإثم، والذي تولَّى كِبْرَهُ منهم له عذابٌ عظيمٌ، لولا إذ سمعتُموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً}...
إقامة الحد ثم أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمسطح بن أثاثه، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدَّهم...
حبيبة الحبيب قالت السيدة عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يا رسول الله، كيف حبّك لي؟)... قال -صلى الله عليه وسلم-: (كعقد الحبل)... فكانت تقول له: (كيف العُقدةُ يا رسول الله؟)... فيقول: (هي على حالها)... كما أن فاطمة -رضي الله عنها- ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذكر عائشة عنده فقال: (يا بُنية: حبيبة أبيك)...
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لأم المؤمنين عائشة: (كنتِ أحبَّ نساء النبي-صلى الله عليه وسلم- إليه، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحبُّ إلا طيّباً)... وقال: (هلكت قلادتُك بالأبواء، فأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلتقطها فلم يجدوا ماءً، فأنزل الله عزّ وجل: قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً}... فكان ذلك بسببكِ وبركتك ما أنزل الله تعالى لهذه الأمة من الرخصة)...
وقال: (وأنزل الله براءتك من فوق سبع سمواته، فليس مسجد يُذكر الله فيه إلاّ وشأنك يُتلى فيه آناء الليل وأطراف النهار)... فقالت: (يا ابن عباس دعني منك ومن تزكيتك، فوالله لوددت أني كنت نسياً مِنسياً)...
رؤية جبريل قالت السيـدة عائشـة: (رأيتك يا رسـول الله واضعاً يدك على معرفة فرسٍ، وأنت قائم تكلِّم دِحيـة الكلبي)... قال -صلى الله عليه وسلم-: (أوَقدْ رأيته؟)... قالت: (نعم!)... قال: (فإنه جبريل، وهو يقرئك السلام)... قالت: (وعليه السلام ورحمة الله وجزاه الله خيراً من زائر، فنعم الصاحب ونعم الداخل)...
زهدها قال عروة: (أن معاوية بعث الى عائشة -رضي الله عنها- بمائة ألف، فوالله ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرّقتها... قالت لها مولاتها: (لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهمٍ لحماً!)... فقالت: (لو قلت قبل أن أفرقها لفعلت)...
فضلها العلمي كانت السيدة عائشة صغيرة السن حين صحبت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا السن يكون الإنسان فيه أفرغ بالا، وأشد استعداداً لتلقي العلم، وقد كانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- متوقدة الذهن، نيّرة الفكر، شديدة الملاحظة، فهي وإن كانت صغيرة السن كانت كبيرة العقل... قال الإمام الزهري: (لو جمع علم عائشة الى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل)... وقال أبو موسى الأشعري: (ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علماً)...
وكان عروة يقول للسيدة عائشة: (يا أمتاه لا أعجب من فقهك؟ أقول زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام العرب، أقول بنية أبي بكر -وكان أعلم الناس- ولكن أعجب من علمك بالطب فكيف هو؟ ومن أين هو؟ وما هو؟)... قال: فضربت على منكبي ثم قالت: (أيْ عُريّة -تصغير عروة وكانت خالته- إنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسقم في آخر عمره، فكانت تقدم عليه الوفود من كل وجه فتنعت له فكنت أعالجه، فمن ثَمَّ)...
اعتزال النبي لنسائه اعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه شهراً، وشاع الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد طلّق نساءه، ولم يكن أحد من الصحابة يجرؤ على الكلام معه في ذلك، واستأذن عمر عدّة مرات للدخول على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤذن له...
ثم ذهب ثالثة يستأذن في الدخول على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأذِنَ له، فدخل عمر والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ على حصير قد أثر في جنبه، فقال عمر: (أطلقت يا رسول الله نساءك؟)... فرفع -صلى الله عليه وسلم- رأسه وقال: (لا)... فقال عمر: (الله أكبر)... ثم أخذ عمر وهو مسرور يهوّن على النبـي -صلى الله عليه وسلم- ما لاقى من نسائـه.
فقال عمر: (الله أكبر! لو رأيتنا يا رسـول اللـه وكنّا معشر قريش قوماً نغلِبُ النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبتُ على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: (ما تُنْكِر أن راجعتك؟ فوالله إن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليراجعْنَهُ، وتهجره إحداهنّ اليوم الى الليل)... فقلت: (قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسِرَتْ، أفتأمَنُ إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذاً هي قد هلكت؟)... فتبسّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...
فقال عمر: (يا رسول الله، قد دخلت على حفصة فقلت: (لا يغرنّك أن كانت جاريتك -يعني عائشة- هي أوْسَم وأحبُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك)... فتبسّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثانية، فاستأذن عمر -رضي الله عنه- بالجلوس فأذن له...
وكان -صلى الله عليه وسلم- أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً من شدّة مَوْجدَتِهِ عليهنّ، حتى عاتبه الله تعالى ونزلت هذه الآية في عائشة وحفصة لأنهما البادئتان في مظاهرة النبي -صلى الله عليه وسلم-... والآية التي تليها في أمهات المؤمنين...
قال تعالى: {إِن تَتُوبَا إلى اللهِ فقد صَغَتْ قُلُوبُكُما وإن تَظَاهرا عَلَيه فإنّ اللهَ هوَ مَوْلاهُ وجِبريلُ وَصَالِحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ ** عسى رَبُّهُ إن طلَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَهُ أزواجاً خَيْراً منكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائِحاتٍ ثَيَّباتٍ وأبكاراً}... سورة التحريم آية (4-5)...
فما كان منهن وآيات الله تتلى على مسامعهن إلا أن قلنَ ... قال تعالى: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير}..
السيدة عائشة والإمام علي لم يكن يوم الجمل لعلي بن أبي طالب، والسيدة عائشة، وطلحة والزبير قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، وكان علي -رضي الله عنه- يوقر أم المؤمنين عائشة ويُجلّها فهو يقول: (إنها لزوجة نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة)...
وكذا السيدة عائشة كانت تُجِلّ علياً و توقره، فإنها -رضي الله عنها- حين خرجت، لم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنّت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبيـن لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانـت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبلّ خمارها...
فعندما أقبلت السيدة عائشة وبلغت مياه بني عامر ليلاً، نبحت الكلاب، فقالت: (أيُّ ماءٍ هذا؟)... قالوا: (ماء الحوْأب)... قالت: (ما أظنني إلا راجعة)... قال بعض من كان معها: (بل تقدمين فيراك المسلمون، فيُصلحُ الله ذات بينهم)... قالت: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم: (كيف بإحداكُنّ تنبُحُ عليها كلاب الحَوْأب)...
وبعـد أن انتهى القتال وقـف علي -رضي اللـه عنه- على خِباء عائشـة يلومها على مسيرها فقالت: (يا ابن أبي طالب، ملكْتَ فأسْجِحْ -أي أحسن العفو-)... فجهَّزها إلى المدينة وأعطاها اثني عشر ألفاً -رضي الله عنهم أجمعين-...
معاوية والسيدة عائشة لمّا قدِم معاوية المدينة يريد الحج دخل على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ومولاها ذكوان أبو عامر عندها فقالت له عائشة: (أمِنتَ أن أخبِّئ لك رجلاً يقتلك بقتلك أخي محمداً؟)... قال معاوية: (صدقتِ)... فكلّمها معاوية فلمّا قضى كلامه، تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق، والذي سنّ الخلفاء بعده، وحضّتْ معاوية على إتباع أمرهم، فقالت في ذلك، فلم تترِك...
فلمّا قضت مقالتها قال لها معاوية: (أنتِ والله العالمة بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-المناصحة المشفقة، البليغة الموعظة، حَضَضْتِ على الخير وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا، وأنتِ أهلٌ أن تطاعي)... فتكلّمت هي ومعاوية كلاماً كثيراً، فلمّا قدم معاوية اتكأ على ذكوان، قال: (والله ما سمعت خطيباً ليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من عائشة)...