يوسف بن تاشفين ومهام صعبة :
قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين (410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ) كثير العفو، مقربًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت،سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق...
ووصفه "ابن الأثير" في "الكامل" بقوله:
كان حليمًاكريمًا، دينًا خيرًا، يحب أهل العلم والدين، ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ فيإكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماعالموعظة، ولان قلبُه لها، وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوبالعظام...
منذ أن ترك الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني دويلة المرابطين في جنوب موريتانياوشمال السنغال في سنة 453هـ= 1061 موالشيخ يوسف بن تاشفين ينتظر وصوله، مرّ يوم ويومان وشهر وشهران ولم يرجع،وحين علم أنه قد توغّل في أفريقيا ما كان منه رحمه الله إلا أن بدأ ينظرفي الشمال باحثًا عمن ابتعد عن دين الله يعلّمه ويردّه إليه.
نظريوسف بن تاشفين في شمال موريتانيا (المنطقة التي تعلوه) وفي جنوب المغربالعربي فرأى من حال البربر الذين يعيشون في هذه المنطقة وبالتحديد في سنة 453 هـ= 1061 م رأى أمورًا عجبًا، هذه بعض منها:
أولًا: قبيلة غمارة:
هي من قبائلالبربر وقد وجد فيها رجلًا يُدعى حاييم بن منّ الله يَدّعي النبوة وهو منالمسلمين، والغريب أنه لم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قالإنه نبي على دين الإسلام، ثم أخذ يُشرّع للناس شرعًا جديدًا وهم يتبعونهفي ذلك ويظنون أن هذا هو الإسلام.
فرضحاييم بن منّ الله على قبيلته صلاتين فقط في اليوم والليلة، إحداها فيالشروق والأخرى في الغروب، وبدأ يؤلّف لهم قرآنًا بالبربرية، ووضع عنهمالوضوء، ووضع عنهم الطُّهر من الجنابة، كما وضع عنهم فريضة الحج، وحرّمعليهم أكل بيض الطيور وأحلّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأيضا حرّم أكل السمكحتى يُذبح.
وإنهلخلط وسَفه بَيّنٌ خاصة حين يَدّعي أنّه من المسلمين، كما أنه من العجب أنيتبعه الناس على هذا الأمر ويعتقدون أن هذا هو الاسلام.
ثانيا: قبيلة برغواطة:
هيقبيلة أخرى من قبائل البربر في تلك المنطقة، على رأسها كان رجل يُدعى صالحبن طريف بن شمعون، ذلك الذي لم يكن بصالح ادّعى أيضًا النبوة، وفرض علىالناس خمس صلوات في الصباح وخمس في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمينبالإضافة إلى غسل السُّرّة وغسل الخاصرتين، كما فرض عليهم الزواج من غيرالمسلمات فقط، وجوّز لهم الزواج بأكثر من أربعة، وأيضًا فرض عليهم تربيةالشعر للرجال في ضفائر وإلا أثموا، ومع كل هذا فقد كان يدّعي أنه منالمسلمين.
ثالثا: قبيلة زناتة:
كانت قبيلةزناته من القبائل السنيّة في المنطقة، وكانت تعرف جزءًا من الإسلام، هوجانب العبادات وأمور العقيدة، فقد كانوا يصلون كما ينبغي أن تكون الصلاة،ويزكون كما يجب أن تكون الزكاة، لكنهم كانوا يسلبون وينهبون مَنْ حولهم،والقوي فيهم يأكل الضعيف، فَصَلُوا الدين تماما عن أمور الدنيا وسياسةالحياة العامة، فلم يكن الدين عندهم إلا صلاة وصيام وحج، وفي غير ذلك منالمعاملات افعل ما بدا لك ولا حرج.
كان من هذاالقبيل الكثير والكثير الذي يكاد يكون قد مرق من الدين بالكلية، وقد كانتهناك قبيلة أخرى تعبد الكبش وتتقرب به إلى رب العالمين، وبالتحديد في جنوبالمغرب، تلك البلاد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي الله عنهما.
يوسف بن تاشفين وصناعة النصر والحضارة
شق ذلك الوضعكثيرًا على يوسف بن تاشفين رحمه الله فأخذ جيشه وانطلق إلى الشمال ليدعوالناس إلى الإسلام، دخل معه بعضهم لكن الغالب قاومه وحاربه، فحاربه حاييمبن منّ الله، وحاربه صالح بن طريف، وحاربته كل القبائل الأخرى في المنطقة،حتى حاربته قبيلة زناتة السنية، فحاربهم بالسبعة آلاف رجل الذين تركهم معهأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله، وبمرور الأيام بدأ الناس يتعلمون منهالإسلام ويدخلون في جماعته المجاهدة.
وبعد رجوعالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة 468 هـ= 1076 م وبعد خمس عشرة سنةمن الدعوة - كما ذكرت - في جنوب السنغال وأدغال أفريقيا، يرى يوسف بنتاشفين رحمه الله الذي كان قد تركه فقط على شمال السنغال وجنوب موريتانيافي سنة 453 هـ= 1061 م يراه أميرًا على: السنغال بكاملها، وموريتانيابكاملها، والمغرب بكاملها، والجزائر بكاملها، وتونس بكاملها، وعلى جيش يصلإلى مائة ألف فارس غير الرجالة، يرفعون راية واحدة ويحملون اسم المرابطين.
وجد أبو بكربن عمر اللمتوني كذلك أن هناك مدينة قد أُسست على التقوى لم تكن على الأرضمطلقا قبل أن يغادر، وتلك هي مدينة "مراكش"، والتي أسسها الأمير يوسف بنتاشفين، وكان أول بناء له فيها هو المسجد الذي بناه بالطين والطوب اللبن،تمامًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحمل بنفسه الطين معالناس تشبهًا أيضًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأمير على مائة ألففارس.
وكذلك وجدالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رجلًا قد أسس حضارة لم تُعرف في المنطقةمنذ سنوات وسنوات، ثم هو بعد ذلك يراه زاهدا متقشفًا ورعًا تقيًا، عالمًابدينه طائعًا لربه، فقام الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بعمل لم يحدث إلافي تاريخ المسلمين فقط، حيث قال ليوسف بن تاشفين: أنت أحق بالحكم مني، أنتالأمير، فإذا كنتُ قد استخلفتُك لأجلٍ حتى أعود فإنك تستحق الآن أن تكونأميرًا على هذه البلاد، أنت تستطيع أن تجمع الناس، وتستطيع أن تملك البلادوتنشر الإسلام أكثر من ذلك، أما أنا فقد ذقت حلاوة دخول الناس في الإسلام،فسأعود مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا أدعو إلى الله هناك
.
أبو بكر بن عمر اللمتوني رجل الجهاد والدعوة :
نزل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا يدعو منجديد، فأدخل الإسلام في غينيا بيساو جنوب السنغال، وفي سيراليون، وفي ساحلالعاج، وفي مالي، وفي بوركينا فاسو، وفي النيجر، وفي غانا، وفي داهومي،وفي توجو، وفي نيجريا وكان هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجريا؛ حيثدخلها قبل ذلك بقرون، وفي الكاميرون، وفي أفريقيا الوسطى، وفي الجابون.
فكانت أكثرمن خمس عشرة دولة أفريقية قد دخلها الإسلام على يدِ هذا المجاهد البطلالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله هذا الرجل الذي كان إذا دعا إلىالجهاد في سبيل الله - كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية - كان يقومله خمسمائة ألف مقاتل، أي نصف مليون من المقاتلين الأشداء غير من لايقومون من النساء والأطفال، وغير بقية الشعوب في هذه البلاد من أعداد لاتحصى قد هداها الله على يديه.
وما من شكأنه كلما صلى رجل صلاة في النيجر أو في مالي أو في نيجريا أو في غانا،كلما صلى رجل صلاة هناك، وكلما فعل أحد منهم من الخير شيئا أُضيف إلىحسنات الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ومن معه رحمهم الله.
قالالحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "أبو بكر بن عمر أمير الملثمين كانفي أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركبمعه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذايقيم الحدود ويحفظ محارم الاسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية،مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعضغزواته في حلقه فقتلته..."
ها هو رحمهالله وبعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى يستشهد في إحدى فتوحاته فيسنة 480 هـ= 1087 م، وما استمتع بملكٍ قط بل كان يغزو في كل عام مرتين،يفتح البلاد ويعلّم الناس الإسلام، لتصبح دولة المرابطين قبل استشهادهرحمه الله ومنذ سنة 478 هـ= 1085 م متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونسفي الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحةأفريقيا.
لذلك حين قرأ "ألفونسو السادس" رد "المعتمد على الله بن عباد" أمير إشبيلية المحاصرة منقِبل الأول: لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين، علم أنه سيواجه ثلث أفريقيا،وعلم أنه سيقابل أقوامًا عاشوا على الجهاد سنوات وسنوات، فقام من توّهبفكّ الحصار ثم الرحيل.
دولة المرابطين ويوسف بن تاشفين أمير المسلمين وناصر الدين :
كانت بدايةحديثنا عن تاريخ المرابطين هو سنة 440 هـ= 1048 م وكانت البداية برجل واحدفقط هو الشيخ عبد الله بن ياسين، ثم كان الصبر والتربية المتأنية فيالدعوة إلى الله على النهج الصحيح القويم ليصل عدد المرابطين وينتشرونبهذا الحجم الذي أشرنا إليه، والذي يمثّل الآن أكثر من عشرين دولة أفريقية.
فقط كان ذلكبعد ثمان وثلاثين سنة، وتحديدًا في سنة 478 هـ= 1085م، ويصبح يوسف بنتاشفين رحمه الله زعيم هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه: أمير المسلمينوناصر الدين، وحين سُئِل لماذا لا تتسمى بأمير المؤمنين؟ أجاب: هذا شرف لاأدّعيه، هذا شرف يخصّ العباسيين وأنا رجلهم في هذا المكان.
كانالعباسيون في هذه الفترة لا يملكون سوى بغداد فقط، وكان يوسف بن تاشفينيريد للمسلمين أن يكونوا تحت راية واحدة، ولم يُرِد رحمه الله أن يشق عصاالخلافة، ولا أن ينقلب على خليفة المسلمين، وكان يتمنى أن لو استطاع أنيضم قوته إلى قوة الخليفة العباسي هناك، ويصبح رجلًا من رجاله في هذهالبلاد فقال مجمّعا مؤمّلا: وأنا رجلهم في هذا المكان، وهذا هو الفقهالصحيح والفهم الشامل للإسلام...